مركز الثقل الجديد لـ"داعش" و"القاعدة".. الساحل الإفريقي كابوس عالمي على الأبواب
مركز الثقل الجديد لـ"داعش" و"القاعدة".. الساحل الإفريقي كابوس عالمي على الأبواب
كتب- سامي جولال
في 9 ديسمبر 2017، فرح العالم بإعلان حكومة بغداد استعادة آخر المناطق العراقية، التي كان يسيطر عليها تنظيم "داعش" الإرهابي، بعد حرب صعبة خاضتها لسنوات القوات العراقية، بمساندة قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ضد التنظيم الإرهابي.
واكتملت الفرحة بعد عامين، عندما أعلن الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، في 24 مارس 2019، أنه "تمت هزيمة داعش في سوريا بنسبة 100%"، بعد نجاح قوات سوريا الديمقراطية، مدعومة من قِبل قوات التحالف الدولي، في إنهاء سيطرة "داعش" على بلدة الباغوز (شرق)، التي كانت آخر معاقل التنظيم الإرهابي في سوريا، لتُكتب نهاية دولة "الخلافة" المزعومة، التي أعلنها "داعش" في 29 يونيو 2014، بعدما تمكن من السيطرة على مناطق كبيرة يسكنها ملايين الأشخاص في العراق وسوريا، وروَّع العالم بأسره لسنوات بعمليات إرهابية أسقطت آلاف القتلى والجرحى من عسكريين ومدنيين، وتسببت في نزوح ملايين الأشخاص.
لكن مجموعة من المعطيات، والوقائع والأحداث، والتطورات الميدانية، والتقارير التي ترصد تطور الإرهاب، وتصريحات مسؤولين دوليين رفيعي المستوى، وقراءات خبراء، تدق ناقوس الخطر، وتعلن أن العالم على موعد قريب مع سيناريو مماثل يتجسد في فضاء إرهابي جديد لا يقل خطورة عن ذلك الذي أقامه "داعش" في العراق وسوريا، وقبله "القاعدة" في أفغانستان، سيكون الكابوس الذي سيؤرق العالم خلال السنوات المقبلة، ويزعزع استقراره الأمني والاقتصادي، ولن يطل هذه المرة من الشرق الأوسط، أو من جنوب آسيا، بل من إفريقيا، التي تحولت إلى مركز الثقل الجديد للجماعات الإرهابية.
هذا الفضاء الإرهابي يتشكل حالياً في منطقة تتوفر فيها الأرض الخصبة، وكل الظروف الملائمة، لتكون المصنع الجديد للإرهاب، من هشاشة على مستوى الأنظمة الحاكمة، وغياب الاستقرار السياسي، ومساحات شاسعة غير مراقبة، وصراع قبلي حول الحكم، ونزاعات إثنية ودينية، وغياب للأمن، وانتشار للفقر، والمجاعة، والأمية، والجريمة المنظمة، والجفاف، وضعف التنمية.
إنها منطقة الساحل الإفريقي الواقعة في فضاء جغرافي استراتيجي في قلب القارة الإفريقية، والقريبة بشكل كبير من جنوب أوروبا، والخليج العربي وجنوب غرب آسيا، والشرق الأوسط، والتي تؤكد العديد من المعطيات أنها الخطر الإرهابي العالمي المقبل، نذكر منها في هذا التقديم، قبل الخوض في التفاصيل في صلب الملف، ما ورد في تقرير "مؤشر الإرهاب العالمي" لعام 2022، الذي يصدره معهد الاقتصاد والسلام الموجود في سيدني الأسترالية، والذي كشف تركز الإرهاب بشكل أكبر في الأقاليم والدول، التي تعيش الصراع وعدم الاستقرار السياسي، وأبرزها إقليم الساحل، وأن نحو نصف وفيات الأعمال الإرهابية في العالم حدثت في إقليم إفريقيا جنوب الصحراء، وأن أكثر 10 دول تأثراً بالإرهاب في العالم تشمل 5 دول إفريقية، تقع جميعها في منطقة الساحل الإفريقي، وأيضاً ما جاء في التقرير الإيطالي الخاص بسياسة أمن المعلومات لعام 2022، الذي نشر نهاية فبراير 2023، وكشف أن منطقة جنوب الصحراء الإفريقية الكبرى أصبحت مركز ثقل جديد لصمود تنظيمي "داعش" و"القاعدة".
وتمتد منطقة الساحل الإفريقي بعرض القارة الإفريقية أسفل شريط الصحراء الكبرى، من موريتانيا والسنغال الواقعتين في الشمال الغربي لإفريقيا، والمطلتين على المحيط الأطلسي، إلى إريتريا، وجيبوتي، وإثيوبيا، الدول الواقعة في منطقة القرن الإفريقي، والمطلة على البحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي، مروراً بمالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، وتشاد، والسودان.
ويعد "مثلث الرعب" المتمثل في بوركينا فاسو، ومالي، والنيجر، التي تربطها حدود برية مع بعضها البعض، أخطر مناطق الساحل الإفريقي من حيث النشاط الإرهابي.
وتنشط في منطقة الساحل الإفريقي مجموعة من الجماعات الإرهابية، تنتمي بشكل عام إلى معسكرين أساسيين، هما تنظيمي "القاعدة" و"داعش"، وسنقدم لاحقاً تفاصيل وافية حولها. وتدخل هذه التنظيمات الإرهابية في حرب ضد القوات الأمنية التابعة لحكومات دول الساحل الإفريقي، والقوات العسكرية الدولية والأممية الموجودة في المنطقة، بغرض إرساء السلام ومحاربة الإرهاب، كما تستهدف المدنيين، وتدخل أيضاً في حرب مع بعضها بعضا في صراع حول مناطق النفوذ.
وبناءً على جملة من المعطيات، والوقائع والأحداث، والتطورات الميدانية، والتقارير التي ترصد تطور الإرهاب، وتصريحات مسؤولين دوليين رفيعي المستوى، جمعناها، وأخضعناها للدراسة والتحليل، واستناداً إلى إضاءات قدمها لـ"جسور بوست" خبراء أمنيون وعسكريون واستراتيجيون، من منطقة الساحل الإفريقي ودول محيطة بها (موريتانيا والمغرب وتونس وليبيا)، نوضح في هذا الملف كيف أصبح الساحل الإفريقي مركز الثقل الجديد لـ"داعش" و"القاعدة" بعد سقوطهما في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، وأرض الإرهاب الجديدة، وكابوس العالم المقبل، وذلك من خلال الإجابة عن مجموعة من الأسئلة الفرعية:
-ما هي تشكيلة الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل الإفريقي، وكيف يتقاسم "داعش" و"القاعدة" ولاءاتها؟
-كيف تحولت منطقة الساحل الإفريقي إلى مركز الثقل الجديد للجماعات الإرهابية، وكيف يتطور الإرهاب بشكل مرعب هناك؟
-ما الذي يجعل الساحل الإفريقي أرضاً خصبة تتوفر فيها كل الظروف الملائمة لتشكل هذا الفضاء الإرهابي؟
-ما هي مختلف أوجه المخاطر والتهديدات، التي يمثلها هذا الفضاء الإرهابي على العالم، سواء على المستوى الأمني، أو الاقتصادي، أو مشكلات الهجرة، أو غيرها؟
لمحة عن تاريخ الجماعات الإرهابية في إفريقيا
في البداية، لا بد من التوضيح أن الجماعات الإرهابية، ونشاطاتها، ليست أمراً جديداً على القارة الإفريقية، التي شهدت منذ سنوات طويلة ميلاد العديد من الجماعات الإرهابية على المستوى المحلي، ومن بينها مثلاً "الجماعة الإسلامية المسلحة"، التي تأسست في الجزائر عام 1992، قبل أن تنبثق عنها في عام 1998 "الجماعة السلفية للدعوة والقتال"، التي ستصبح في وقت لاحق (عام 2007) "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، كما شهدت نيجيريا في عام 2002 ميلاد جماعة "بوكو حرام"، وغيرها من الجماعات الإرهابية الإفريقية الأخرى.
كما أن ظهور تنظيم "القاعدة" في إفريقيا، ونشاطاته فيها، ليس حديثاً، فأسامة بن لادن، مؤسس التنظيم وزعيمه التاريخي، استقر رفقة عدد من قيادات التنظيم في السودان ما بين عامي 1992 و1996، وكانت القارة الإفريقية منذ أواخر القرن الماضي مسرحاً لعمليات إرهابية كبيرة نفذها التنظيم، نذكر منها -على سبيل المثال- تفجير سفارتي الولايات المتحدة الأمريكية في كينيا وتنزانيا في عام 1998، ما أودى بحياة 200 شخص، وإصابة الآلاف.
ودخل "داعش" إلى إفريقيا في السنة نفسها، التي أعلن فيها التنظيم تأسيس دولة "الخلافة" المزعومة في العراق وسوريا (في 29 يونيو 2014)، إذ ظهر تنظيم "داعش-ولاية سيناء" في مصر، بعد مبايعة تنظيم "أنصار بيت المقدس" الزعيم الأسبق لـ"داعش"، أبوبكر البغدادي، في 10 نوفمبر 2014، وفي ليبيا أيضاً مع إعلان "مجلس شورى شباب الإسلام"، عبر فيديو نشر على الإنترنت في 3 أكتوبر عام 2014، مبايعة التنظيم وزعيمه آنذاك، أبوبكر البغدادي، قبل أن يعلن هذا الأخير في وقت لاحق ليبيا جزءاً من "دولة الخلافة" المزعومة.
لكن الجديد على القارة الإفريقية هو تحولها إلى مركز الثقل الجديد للجماعات الإرهابية، وبشكل خاص منطقة الساحل الإفريقي، بعدما كانت هذه الخصوصية لصيقة بالشرق الأوسط وجنوب آسيا. وتشهد منطقة الساحل الإفريقي تسارع أعمال عنف الميليشيات المتشددة بشكل أسرع من أية منطقة أخرى في إفريقيا، وهو المعطى الذي كشفه تقرير لمركز إفريقيا للدراسات الإستراتيجية في واشنطن، نشر في 26 أكتوبر 2022، وأفاد بأن الأحداث العنيفة في منطقة الساحل، خاصة بوركينا فاسو، ومالي، وغرب النيجر، تتصاعد بزيادة قدرها 140% منذ عام 2020، ولا توجد مؤشرات على تراجعها، وأن هذا التصعيد المستمر للعنف أدى إلى مقتل 8000 شخص، ونزوح 2.5 مليون.
وتسجل بوركينا فاسو واحدة من أسرع أزمات النزوح في العالم، حيث أجبر ما يقرب من واحد من كل 10 سكان على مغادرة منازلهم، بسبب هجمات الجماعات المتشددة منذ عام 2015 في الشمال والشرق، وفق ما كشفه الترتيب السنوي الخاص بـ"أكثر 10 أزمات مهملة" حول العالم، الذي يصدره المجلس النرويجي للاجئين (منظمة غير حكومية)، والذي تكونت نسخته الأخيرة الصادرة في 1 يونيو 2022 لأول مرة بالكامل من بلدان إفريقية.
تَوَزُّعُ الولاءات بين "القاعدة" و"داعش"
الخبير الأمني والعسكري التونسي وأستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة منوبة بتونس، فيصل الشريف، أوضح، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن "أقدم تنظيم إرهابي في منطقة الساحل الإفريقي هو القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، حيث بدأت بعض الجماعات السلفية في العمل في منطقة الساحل، في بوركينا فاسو، ومالي، والنيجر، وتشاد، وجزء من نيجيريا، وفي سنة 2007 أصبحت تسمى القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، ورمت بأطرافها إلى عمق التراب الجزائري، ومست حتى موريتانيا، وجزءاً من المغرب وتونس، وقامت بعمليات نوعية، وبعد سنة 2013، بعد وصول تنظيم داعش إلى الموصل وإقامة إمارة هناك، برز كتنظيم ثانٍ موازٍ لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وبدأ يدخل في عمق بلاد منطقة الساحل، نظراً للتضييقات التي سلطت عليه في منطقة الشرق الأوسط، ليصبح التنظيمان تقريباً هما الأبرز بين الجماعات الإرهابية في الساحل الإفريقي".
وتنشط في منطقة الساحل الإفريقي في الوقت الحالي مجموعة من الجماعات الإرهابية، تتوزع ولاءاتها بين معسكرين رئيسيين، هما تنظيمي "القاعدة" و"داعش".
المعسكر الأول (القاعدة)، يضم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، ويقودها الجزائري أبوعبيدة يوسف العنابي، وجماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” وهي تحالف تأسس في مارس 2017، بعد توحد مجموعة من التنظيمات الإرهابية في منطقة الساحل الإفريقي، ومبايعتها لـ"القاعدة"، و"القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، وهي "أنصار الدين"، و"كتائب ماسينا"، و"المرابطون"، و"إمارة منطقة الصحراء الكبرى"، ويتزعم جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" مالي من الطوارق يدعى إياد أغ غالي.. كما يضم معسكر "القاعدة" حركة "الشباب" الصومالية، التي تأسست في عام 2004، ويقودها حالياً الصومالي عمر أحمد ديري المعروف بـ"أبوعبيدة"، وبايعت الحركة "القاعدة" في عام 2012 بحسب ما أعلنه وقتها قائدها آنذاك، الصومالي أحمد عبدي غودني، قبل أن تشهد الحركة في عام 2015 انشقاقاً، ومبايعة مجموعة منها، بقيادة الصومالي عبدالقادر مؤمن، تنظيم "داعش".
أما المعسكر الثاني (داعش)، فيضم تنظيم "داعش في الصحراء الكبرى"، الذي نشأ عام 2015 بعد انشقاق داخل تنظيم "المرابطون"، الذي تأسس في أغسطس 2013 بعد اتحاد "جماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا" وجماعة "الملثمون"، وكان يقود تنظيم "داعش في الصحراء الكبرى" المغربي أبو وليد الصحراوي، قبل أن تقتله القوات الفرنسية في منتصف أغسطس 2021، وتقتل في 12 يونيو 2022 أمية ولد البقاعي، الذي كان يجب أن يخلفه، ولا يعرف الزعيم الحالي للتنظيم.
كما يضم معسكر "داعش" في منطقة الساحل الإفريقي تنظيم "داعش في غرب إفريقيا"، الذي نشأ في أغسطس 2016، بعد انشقاق حدث داخل جماعة "بوكو حرام" النيجيرية، عندما أعلن "داعش" تعيين النيجيري أبومصعب البرناوي، نجل مؤسس "بوكو حرام" محمد يوسف، خليفة لقائد "بوكو حرام" وقتها، النيجيري أبوبكر شيكاو، الذي رفض ذلك، وأعلن أنه ما زال قائداً لـ"بوكو حرام".
وقتل البرناوي في أكتوبر 2021 على يد الجيش النيجيري، وعين مالام باكو خليفة له، قبل أن يقتل على يد الجيش النيجيري في الشهر نفسه، في ضربة موجعة لتنظيم "داعش في غرب إفريقيا"، الذي لا يعرف من يتزعمه في الوقت الحالي.. وإلى جانب تنظيمي "داعش في الصحراء الكبرى"، و"داعش في غرب إفريقيا"، تتبع لمعسكر "داعش" في منطقة الساحل الإفريقي أيضاً مجموعة انشقت عن حركة "الشباب الصومالية" وبايعت "داعش" في عام 2015، ويقود هذه المجموعة الصومالي عبدالقادر مؤمن.
ولكل من هذين المعسكرين ("القاعدة" و"داعش") مناطق سيطرته الخاصة، لكنهما يتقاطعان في بعض المناطق، من بينها مثلث الرعب" المتمثل في بوركينا فاسو، ومالي، والنيجر، ويدخلان في مواجهات وصراعات حول النفوذ.
الساحل الإفريقي.. مركز الثقل الجديد للجماعات الإرهابية
في نوفمبر 2020، ظهر أول تحذير قوي من تحول القارة الإفريقية إلى مركز الثقل الجديد للجماعات الإرهابية، وذلك عندما كشفت نشرة "مؤشر الإرهاب العالمي" أن "داعش" نقل مركز ثقله، بعد خسارته معقله في العراق وسوريا، من منطقة الشرق الأوسط إلى القارة الإفريقية، وإلى جنوب القارة الآسيوية بدرجة أقل.
الأمر نفسه أكده التقرير الإيطالي الخاص بسياسة أمن المعلومات لعام 2022، الذي حررته دائرة المخابرات، ونشرته في 31 فبراير 2023، وكشف أن منطقة جنوب الصحراء الإفريقية الكبرى أصبحت مركز ثقل جديد لصمود تنظيمي "داعش" و"القاعدة"، وأنهما اتجها، مع تراجع دورهما وأنشطتهما في معاقلهما المركزية، والضغط المستمر من قِبل قوى مكافحة الإرهاب، نحو إعادة صياغة العلاقات بين القيادة المركزية والجماعات التابعة، من خلال مزيد من التفويض للجماعات المتفرعة في دول جديدة، وتبني لامركزية تدريجية، واستقلالية أكبر في صنع القرار بالنسبة للفروع الإقليمية، محاولَيْن الاستفادة من الصراعات العرقية في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، والعلاقات المختلة بين الحكومات المركزية والمناطق البعيدة، والإدارة الصعبة للموارد، وتأثيرات المناخ على القطاع الزراعي.
تحول منطقة الساحل الإفريقي إلى المصنع الجديد للإرهاب، ومرورها في الوقت الحالي بتطورات تقود نحو تشكل فضاء إرهابي لا يقل خطورة عن ذلك الذي خلقه "داعش" في العراق وسوريا، وقبله "القاعدة" في أفغانستان، طرح يؤكده أيضاً تقرير "مؤشر الإرهاب العالمي" لعام 2022، الذي يصدره معهد الاقتصاد والسلام الموجود في سيدني الأسترالية، إذ كشف عن تركز الإرهاب بشكل أكبر في الأقاليم والدول، التي تعيش الصراع وعدم الاستقرار السياسي، وأبرزها إقليم الساحل، الذي عرف تدهوراً كبيراً، بحيث سجلت دول بوركينا فاسو، ومالي، والنيجر، زيادات كبيرة على مستوى الوفيات الناتجة عن أحداث إرهابية في عام 2021، وأن أكثر 10 دول تأثراً بالإرهاب في العالم تشمل 5 دول إفريقية، وهي: الصومال (المركز الثالث)، وبوركينا فاسو (المركز الرابع)، ونيجيريا (المركز السادس)، ومالي (المركز السابع)، والنيجر (المركز الثامن)، وهي جميعها دول تقع في منطقة الساحل الإفريقي.
وكشف التقرير عن أن نحو 48% من وفيات الأعمال الإرهابية في العالم (3461 فرداً) حدثت في إقليم إفريقيا جنوب الصحراء، وأن قائمة الدول العشر الأكثر تأثراً بالإرهاب في القارة الإفريقية جنوب الصحراء تضم ستاً من دول الساحل.
الخبير الأمني والعسكري المغربي، محمد شقير، قال في حديث مع "جسور بوست"، إن "هذه التنظيمات تشكل خطراً عالمياً، وأنه بعدما تم القضاء عليها، أو إضعافها، في منطقة بلاد الرافدين، بالإضافة إلى إقصائها، أو إبعادها، من أفغانستان، حاولت أن تنتقل إلى الساحل الإفريقي، الذي أصبح يشكل بؤرة أساسية في هذه المنطقة، وأصبح يستقطب كل القوى والتنظيمات الإرهابية، ما جعلها تشكل تكتلاً إرهابياً قوياً يستفيد من مجموعة من العوامل، من أبرزها أن منطقة الساحل الإفريقي تشكل معبراً للتهريب، والاتجار في البشر، والمخدرات، وهذا يجعل هذه التنظيمات تستفيد من تمويلات مترتبة عن هذه الأنشطة، ما يقوي من نشاطها وعملياتها الإرهابية".
خطورة الإرهاب في منطقة الساحل الإفريقي تظهر كذلك في تقرير نشره مركز “إفريقيا للدراسات الاستراتيجية” في واشنطن في 9 مارس 2023، جاء فيه أن منطقة الساحل تمثل الآن 60% من جميع الوفيات، التي تستهدف المدنيين والمرتبطة بعنف المتطرفين في إفريقيا، و40% من جميع الأنشطة العنيفة، التي تقوم بها الجماعات المتشددة في إفريقيا، أكثر من أي منطقة أخرى داخل القارة، وأن عنف الجماعات المتشددة في منطقة الساحل والصومال شكل 77% من إجمالي أحداث العنف المعلن عنها في جميع أرجاء قارة إفريقيا في عام 2022، الذي شهد خلاله الساحل الإفريقي زيادة مذهلة بنسبة 49% في الوفيات الناجمة عن عنف الجماعات المتشددة ضد المدنيين، وتضمنت وقوع 978 هجوماً.
وعلت أصوات مجموعة من المسؤولين الدوليين رفيعي المستوى للتحذير من هذا التحول، من بينهم رئيس برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أكيم شتاينر، الذي قال إن "إفريقيا جنوب الصحراء برزت باعتبارها البؤرة العالمية للتطرف العنيف خلال السنوات الأخيرة"، ونائبة الأمين العام للأمم المتحدة، أمينة محمد، التي أفادت بأن "انتشار الإرهاب في إفريقيا لا يمثل مصدر قلق للدول الإفريقية وحدها، بل هو تحدٍ لنا جميعاً، وأن الوضع في منطقة الساحل وغرب إفريقيا ملح بشكل خاص"، لكن هذا التحول حظي، بحسب منظمة الأمم المتحدة، باهتمام دولي ضئيل نسبياً، في وقت يعاني فيه العالم من فيروس كورونا، وأزمات المناخ، والحرب في أوكرانيا.
رئيس المركز المغاربي للدراسات الاستراتيجية بنواكشوط في موريتانيا والأستاذ الجامعي، ديدي ولد السالك، أفاد، في تصريحات لـ"جسور بوست"، بأن "منطقة الساحل والصحراء أصبحت المنطقة الرخوة في العالم، بينما كانت منطقة آسيا الوسطى، خاصة أفغانستان، في بداية التسعينيات والعقود الماضية، هي المنطقة الرخوة، وأن خطر الإرهاب والجريمة المنظمة تحول حالياً إلى منطقة الساحل، لأنها أصبحت تَرَكُّزَ الجريمة المنظمة في العالم، لعدة اعتبارات من بينها أن هناك تحالفاً بين المنظمات الإرهابية، والهجرة غير الشرعية، وجماعات تهريب المخدرات والسلاح، وبالتالي تجد الأرضية والحاضنة في هذه المنطقة من العالم، بسبب هشاشة الأنظمة، بل فشلها".
توفر الأرض الخصبة
تشكُّل هذا الفضاء الإرهابي الخطير في منطقة الساحل الإفريقي يسهله توفر الأرض الخصبة، وكل الظروف الملائمة، لتحقق ذلك؛ من هشاشة على مستوى الأنظمة الحاكمة، وغياب الاستقرار السياسي، ومساحات شاسعة غير مراقبة، وصراع قبلي حول الحكم، ونزاعات إثنية ودينية، وغياب للأمن، وانتشار للفقر، والمجاعة، والأمية، والجريمة المنظمة، والجفاف، وضعف التنمية، وغيرها من العوامل الأخرى.
ففي مالي، حدث انقلابان عسكريان في أقل من سنة، الأول قام به ضباط ماليون في 18 أغسطس 2020، احتجزوا مجموعة من مسؤولي البلاد، بينهم رئيسها المنتخب آنذاك، إبراهيم أبوبكر كيتا، الذي قدم استقالته في اليوم نفسه، وتعيين رئيس مؤقت، العقيد المتقاعد باه نداو، وحكومة مدنية مؤقتة بقيادة مختار وان، وتعهد العسكريون بإعادة السلطة إلى مدنيين منتخبين في ظرف 18 شهراً، قبل أن يطيح رئيس المجلس العسكري في مالي، الكولونيل أسيمي غويتا، بباه نداو ومختار وان، في انقلاب عسكري ثانٍ في 24 مايو 2021، وتولى غويتا الرئاسة الانتقالية، واتخذ قرار تمديد الفترة الانتقالية حتى مارس 2024، بعدما كان يفترض أن يسلم الحكم إلى مدنيين في فبراير 2022.
السيناريو نفسه عاشته بوركينا فاسو، التي شهدت في 24 يناير 2022 انقلاباً عسكرياً نتجت عنه الإطاحة بالرئيس المنتخب آنذاك، روش مارك كريستيان كابوري، وتولي رئيس المجلس العسكري آنذاك، اللفتنانت كولونيل بول هنري سانداوغو داميبا، السلطة، قبل أن يقوم عسكريون بالإطاحة به في انقلاب عسكري ثانٍ في 30 سبتمبر 2022، وتعيين الرائد إبراهيم تراوري، الذي أصبح رئيساً للمجلس العسكري الحاكم، قائداً للبلاد.
وشهدت تشاد، في 20 إبريل 2021، مقتل رئيسها إدريس ديبي، الذي حكم البلاد 30 عاماً، بعد إصابته في معركة ضد المتمردين، وإعلان الجيش تولي ابنه قائد الحرس الرئاسي التشادي محمد إدريس ديبي إيتنو، قيادة مجلس عسكري مكلف تولى إدارة البلاد.
الفقر والإرهاب
الفقر يعد أيضاً عاملاً أساسياً وراء تنامي الإرهاب بهذه الوتيرة السريعة في منطقة الساحل الإفريقي، إذ يتيح للجماعات الإرهابية سهولة استقطاب وتجنيد أعداد كبيرة من المقاتلين في صفوفها، وهو ما أثبته برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الذي أجرى في عام 2021 لقاءات مع نحو 2200 شخص في 8 دول إفريقية تعاني من الجماعات المتشددة، أو جماعات العنف الأخرى، وهي بوركينا فاسو، والكاميرون، وتشاد، ومالي، والنيجر، ونيجيريا، والصومال، والسودان، وكشف أن 70% من أولئك الأشخاص، وبينهم 1200 شخص كانوا أعضاءً سابقين في جماعات متطرفة، قالوا إن الفقر هو الدافع الأساسي وراء الانضمام إلى تلك الجماعات، في حين أرجع 17% فقط من المستجوبين السبب الرئيسي إلى الدوافع الدينية.
وإضافة إلى الفقر، يعتبر غياب الأمن الغذائي من بين أبرز المشكلات، التي تعاني منها منطقة الساحل الإفريقي، إذ كشف الترتيب السنوي الخاص بـ"أكثر 10 أزمات مهملة" حول العالم، الذي يصدره المجلس النرويجي للاجئين (منظمة غير حكومية)، والذي تكونت نسخته الأخيرة الصادرة في 1 يونيو 2022 لأول مرة بالكامل من بلدان في القارة الإفريقية، أن 27 مليوناً من الأشخاص في منطقة الساحل وغرب إفريقيا يعانون من المجاعة، وهي حالة من القسوة غير المسبوقة على مدى 10 سنوات، أوضح الترتيب المذكور أنها تفاقمت بسبب الآثار التراكمية للحرب في أوكرانيا، وتغير المناخ، ووباء "كوفيد-19"، إضافة إلى أن هناك "شكلا من أشكال المركزية الأوروبية، وحتى العنصرية في توزيع المساعدات الدولية".
وتصنف منطقة الساحل الإفريقي من بين أكثر مناطق العالم تأثراً بتغير المناخ، حيث ترتفع هناك درجات الحرارة بسرعة تزيد بـ1.5 ضعف مقارنة بالمعدل العالمي، وأصبح تساقط الأمطار غير منتظم وكثيفاً، الأمر الذي تنتج عنه فيضانات، ويقلص المحاصيل، ويلوث إمدادات المياه القليلة، وفق ما جاء في تقرير نشرته منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" في 17 مارس 2023، أوضح أيضاً أنه في عام 2022 حدثت فيضانات هي الأسوأ منذ سنوات، تسببت في تدمير 38 ألف منزل في النيجر، التي تحتل المرتبة السابعة في العالم على مؤشر الخطر المناخي على الأطفال، الذي تصدره "اليونيسيف".
كل هذه العوامل والظروف، وغيرها من مساحات شاسعة غير مراقبة يستغلها أفراد الجماعات الإرهابية في التنقل، والتدرب، والاختباء، وتوتر العلاقات بين مجموعة من المناطق والسلطات المركزية، وارتفاع نسبة الأمية، وضعف التنمية، وسواها، تشكل أرضاً خصبة تستغلها الجماعات الإرهابية لإحكام سيطرتها على منطقة الساحل الإفريقي.
رئيس المركز المغاربي للدراسات الاستراتيجية بنواكشوط في موريتانيا والأستاذ الجامعي، ديدي ولد السالك، قال في هذا الجانب إن "3 إلى 4 دول من مجموعة دول الساحل الخمس، التي تضم موريتانيا، وبوركينا فاسو، والنيجر، وتشاد، ومالي سابقا، هي دول فاشلة".
وأردف أن "مالي عملياًّ دولة فاشلة، وبوركينا فاسو دولة فاشلة، وتشاد دولة فاشلة، والنيجر إلى حد ما، وموريتانيا دولة هشة، وأن الجماعات الإرهابية وجدت القاعدة والحاضنة الاجتماعية للصراعات العرقية، وحاضنة الفقر الذي يصل في بعض هذه الدول إلى 80%، وحاضنة البطالة، والمظالم التاريخية، وفساد الأنظمة"، موضحاً أنه "ستكون هناك هجرة كثيفة إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط وشمال إفريقيا، وأن العالم يتخوف من أن تكون هذه المنطقة منطقة عدم استقرار، تؤثر على كل مصالحه، لأنها غنية بالثروات، وبوابة من البوابات الأساسية لإفريقيا".
استغلال انسحاب القوات الأوروبية
الفراغ الذي تركه انسحاب الجنود التابعين لفرنسا وشركائها الأوروبيين، من مالي خلال عام 2022، استغلته الجماعات الإرهابية وزادت من عملياتها، وهو ما يؤكده تقرير نشره مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية في واشنطن في 9 مارس 2023، جاء فيه أن الساحل الإفريقي شهد خلال عام 2022 زيادة مذهلة بنسبة 49% في الوفيات الناجمة عن عنف الجماعات المتشددة ضد المدنيين، وتضمنت وقوع 978 هجوماً.
وأعلنت فرنسا، وشركاؤها الأوروبيون، وكندا، في 17 فبراير 2022، بعد 9 سنوات من الوجود العسكري في مالي، انسحابهم العسكري منها، وإنهاء العمليتين العسكريتين لمكافحة المتطرفين "برخان" و"تاكوبا"، بعدما طلب المجلس العسكري الحاكم في مالي من الجيش الفرنسي مغادرة البلاد، بعد تدهور العلاقات بين باريس وباماكو، بسبب قرار المجلس تمديد الفترة الانتقالية حتى مارس 2024، بعدما كان يفترض أن يسلم الحكم إلى مدنيين في فبراير 2022، وانتشار مقاتلين من مجموعة "فاغنر" الروسية في مالي.
وبدأت عملية "برخان" في عام 2014، بمشاركة نحو 5500 جندي، نشروا في مالي، والنيجر، وتشاد، لمكافحة الإرهاب. وبلغ عدد قوات "برخان" في مالي عند إعلان قرار الانسحاب 2400 عسكري، بحسب الإليزيه، في حين بلغ عدد قوات عملية "تاكوبا" في مالي، التي شكلتها فرنسا ومجموعة من حلفائها الأوروبيين والأفارقة في مارس 2020، ما بين 800 و900 من جنود النخبة.
وفي المقابل، أبقت فرنسا على 3000 جندي من قوات "برخان" في منطقة الساحل الإفريقي في النيجر وتشاد، بحسب رئاسة الأركان الفرنسية.
وتعمل هذه القوات الفرنسية على مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل الإفريقي إلى جانب القوة المشتركة لمواجهة التنظيمات الإرهابية التي أنشأتها مجموعة دول الساحل الخمس، وهي: موريتانيا، ومالي، وبوركينا فاسو، وتشاد، والنيجر، في قمة دول الساحل الخمس، التي احتضنتها العاصمة المالية باماكو في يوليو 2017، بحضور الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، قبل أن يقرر المجلس العسكري الحاكم في مالي في 15 مايو 2022 الانسحاب من المجموعة، بمبرر عدم السماح لباماكو بترؤسها. كما توجد في مالي بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي "مينوسما".
مخاطر متعددة
منطقة الساحل الإفريقي قريبة جغرافياً بشكل كبير من جنوب أوروبا، إذ لا يفصلها عنها سوى شريط بلدان شمال إفريقيا، التي تشهد حروباً وانفلاتاً أمنياً (ليبيا)، واضطرابات وعدم استقرار سياسي واقتصادي (تونس)، ولا يفصل بلدان شمال إفريقيا نفسها عن القارة العجوز إلّا البحر الأبيض المتوسط، كما أن إسبانيا تحتل مدينتي سبتة ومليلية المغربيتين الواقعتين ضمن التراب المغربي والخاضعتين للسيادة الإسبانية، وكل هذه عوامل تزيد من خطر وصول عناصر تلك التنظيمات الإرهابية إلى أوروبا، لتنفيذ عمليات إرهابية هناك بطريقة أسهل من انطلاقهم من العراق أو سوريا أو أفغانستان، خصوصاً في ظل الحركة الكثيفة للهجرة غير الشرعية، التي تشهدها المنطقة نحو أوروبا.
خطورة تَشكُّل هذا الفضاء الإرهابي في منطقة الساحل الإفريقي لا تتجسد فقط في الجانب الأمني المحض، بل تتجاوزه إلى جوانب أخرى، من بينها أنها ستهدد بشكل مباشر وصريح المصالح الاقتصادية العالمية، نظرا للثروات الطبيعية المهمة، التي تزخر بها المنطقة، من نفط، وغاز، وحديد، وفوسفات، وذهب، ويورانيوم، وغيرها، والمشاريع الاستراتيجية التي تحتضنها، ومن بينها خط أنابيب الغاز الذي سينطلق من نيجيريا، صاحبة أكبر احتياطات الغاز الطبيعي في القارة الإفريقية، مروراً بالنيجر، وصولا إلى الجزائر، التي سيتم منها تصدير الغاز النيجيري إلى أوروبا، التي تعيش أزمة طاقة خانقة، بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية، وتراهن -إلى جانب خطط أخرى- على الغاز الإفريقي لتجاوز أزمة الطاقة، دون أن ننسى الموقع الاستراتيجي لمنطقة الساحل الإفريقي المطلة على واجهات بحرية مهمة؛ المحيط الأطلسي غرباً، والبحر الأحمر، وخليج عدن، والمحيط الهندي، شرقاً، ما يهدد حركة الملاحة البحرية العالمية في هذه الواجهات البحرية المهمة والاستراتيجية.
الخبير العسكري والاستراتيجي الليبي، عادل عبد الكافي، قال في تصريحات لـ"جسور بوست"، إن "خطر الجماعات الإرهابية في الساحل الإفريقي له عدة أوجه، كونها أصبحت في منطقة حساسة بها موارد اقتصادية، كحقول الغاز، والنفط، وأيضاً مواقع استخراج الذهب والألماس في إفريقيا، وأن الجماعات الإرهابية تستغل مثل هذه المصادر لتحقيق استراتيجيتها في التمدد والانتشار".
وتابع: "وتستغل كذلك الهجرة غير الشرعية، حتى تستطيع أن تمرق وتجنِّد عناصرها، للقيام بعمليات في بعض الدول، سواء كانت إفريقية أو أوروبية، ولذلك تجد المنظمات الإرهابية في منطقة الساحل الإفريقي أرضاً خصبة، تتوفر فيها جميع العوامل من موارد اقتصادية، وبشرية، حتى تستطيع أن توسع نفوذها، ولذلك فإن مواجهتها تحتاج إلى تكاتف دولي، وإلى استراتيجية دولية".